الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ
الْحَمْدُ للهِ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ تَنْزِيلاً، وَجَعَلَهُ عَلَى الْحَقِّ حُجَّةً وَدَلِيلاً، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ يَسَّرَ الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ وَسَهَّلَهُ لِمَنْ شَاءَ تَسْهِيلاً، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَصَفِيُّهُ وَخَلِيلُهُ؛ اتَّخَذَ الْقُرْآنَ هَادِياً إِلَى الْجَنَّةِ وَسَبِيلاً، وَوَعَدَ مَنْ قَرَأَهُ نُوراً وَثَوَاباً جَزِيلاً، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَمِلُوا بَالْقُرْآنِ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمٍ تَكُونُ الْجَنَّةُ لأَِهْلِ الْقُرْآنِ خَيْراً مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنَ مَقِيلاً.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِهِ أَذَلَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلاً، قَالَ اللهُ تَعَالَى: ) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( [الحديد:28].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
إِنَّ أَعْظَمَ إِكْرَامٍ لِهَذِهِ الأُمَّةِ أَنْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْهَا أَحْسَنَ الْكُتُبِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهَا أَفْضَلَ الرُّسُلِ، وَزَيَّنَهَا بِأَيْسَرِ الشَّرَائِعِ وَأَكْمَلِهَا، وَجَعَلَهَا خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، وَبِهِ جَمَّلَهَا؛ تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَتَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتُؤْمِنُ بِاللهِ.
وَقَدْ جَعَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ نُورَهُ فِي الأَرْضِ كُلِّهَا، وَحُجَّتَهُ الْبَاهِرَةَ عَلَى أَهْلِهَا، يُخْرِجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَيَدْعُو إِلَى الإِيمَانِ وَالسَّعَادَةِ وَالْحُبُورِ، وَيَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ دَارِ الْخُلُودِ وَالسُّرُورِ، قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: )إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا * وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا( [الإسراء:9-10]، وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: )يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( [المائدة:15-16].
فَهُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ، وَهُوَ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ، وَهُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، وَهُوَ الَّذِي لاَ تَزِيغُ بِهِ الأَهْوَاءُ، وَلاَ تَلْتَبِسُ بِهِ الأَلْسِنَةُ، وَلاَ يَشْبَعُ مِنْهُ الْعُلَمَاءُ، وَلاَ يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَةِ الرَّدِّ، وَلاَ تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ الْجِنُّ إِذْ سَمِعَتْهُ أَنْ قَالُوا: ) إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ( [الجن:1].
هُوَ الَّذِي مَنْ قَالَ بِهِ صَدَقَ، وَمَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، وَمَنْ عَمِلَ بِهِ أُجِرَ، وَمَنْ دَعَا إِلَيْهِ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ.
سَمَّاهُ اللهُ قُرْآنًا كَرِيماً فَقَالَ: )إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( [الواقعة:77]، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَلاَمُ اللهِ فَقَالَ: )حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ( [التوبة:6]، وَسَمَّاهُ نُورًا فَقَالَ: )وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ( [النساء:174]، وَسَمَّاهُ هُدًى وَرَحْمَةً فَقَالَ: )هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ( [لقمان:3]،وَسَمَّاهُ فُرْقَانًا فَقَالَ: ) تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ على عبده ( [الفرقان:1]، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ شِفَاءٌ فَقَالَ: )وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ ( [الإسراء:82] وَسَمَّاهُ مَوْعِظَةً فَقَالَ: )قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ([يونس:57]، وَسَمَّاهُ ذِكْرًا مُبَارَكاً فَقَالَ: ) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ ( [الأنباء:50] وَجَعَلَهُ رُوحًا فَقَالَ: )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا ( [الشورى:52] ، وَجَعَلَهُ نَاسِخاً لِلْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ السَّابِقَةِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهَا؛ أَمِيناً عَلَيْهَا وَحَافِظاً لَهَا. وَوَعَدَ -سُبْحَانَهُ- بِحِفْظِهِ مِنْ أَنْ يُزَادَ فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ، أَوْ يَنْقُصَ مِنْهُ مَا هُوَ مِنْهُ مِنْ أَحْكَامِهِ وَحُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ؛ فَقَالَ تَعَالَـى: ) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ( [الحجر:9].
فَحَفِظَهُ الْمُسْلِمُونَ -بِحِفْظِ اللهِ وَتَوْفِيقِهِ - فِي الصُّدُورِ وَالسُّطُورِ جِيلاً بَعْدَ جِيلٍ؛ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِكِتَابٍ فِي الأَرْضِ مِنْ حِفْظٍ وَصِيَانَةٍ.
إِخْوَةَ الإِيمَانِ:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ كُلُّهُ نُورٌ وَضِيَاءٌ، وَرَحْمَةٌ وَشِفَاءٌ، وَطُمَأْنِينَةٌ وَبَهَاءٌ، يَسْعَدُ بِهِ الْمُسْلِمُ فِي حَيَاتِهِ، وَيَلْحَقُهُ نَفْعُهُ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيَشْفَعُ لَهُ فِي الْقِيَامَةِ عِنْدَ مِيزَانِ حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ، فَهُوَ - لأَِهْلِهِ - حَبْلُ اللهِ الْمَتِينُ، وَنُورُهُ الْمُبِينُ، وَعُرْوَتُهُ الْوُثْقَى الَّتِي لاَ انْفِصَامَ لَهَا لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهَا؛ فَعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيِّ t قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ r، فَقَالَ: «أَبْشِرُوا وَأَبْشِرُوا، أَلَيْسَ تَشْهَدُونَ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟» قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: «فَإِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ سَبَبٌ [أَيْ:حَبْلٌ] طَرَفُهُ بِيَدِ اللَّهِ، وَطَرَفُهُ بِأَيْدِيكُمْ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ، فَإِنَّكُمْ لَنْ تَضِلُّوا، وَلَنْ تَهْلِكُوا بَعْدَهُ أَبَدًا» [ أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ].
وَثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَظِيمٌ، وَأَجْرُ تِلاَوَتِهِ أَجْرٌ كَرِيمٌ؛ فَفِي كُلِّ حَرْفٍ يَقْرَؤُهُ حَسَنَةٌ؛ وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لاَ أَقُولُ ) الم ( حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلاَمٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ]. وَأَعْظِمْ بِهَذَا الْكِتَابِ الْعَزِيزِ شَأْناً!، وَأَكْرِمْ بِهِ نُزُلاً!؛ إِذْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعاً لأَِصْحَابِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ: أَيْ رَبِّ، مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ، فَشَفِّعْنِي فِيهِ، قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ » [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ].
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ t قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r، يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لأَِصْحَابِهِ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ].
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ عَلَى عِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ، وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً، وَكَانَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَوْلاً وَعَمَلاً وَاعْتِقَاداً؟ وَهَلْ ثَمَّةَ خَيْرٌ يُدْعَى بِهِ وَإِلَيْهِ أَفْضَلُ مِنَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ؟؛ عَنْ عُثْمَانَ t عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ].
عِبَادَ اللهِ:
وَلَمَّا كَانَ الْقُرْآنُ خَيْراً كُلُّهُ، وَنُوراً وَهِدَايَةً كُلُّهُ؛ كَانَ أَهْلُهُ هُمْ أَهْلَ اللهِ وَخَاصَّتَهُ، وَأَيُّ شَرَفٍ لِلإِنْسَانِ أَسْمَى مِنْ هَذَا الشَّرَفِ؟ وَأَيُّ مَنْزِلَةِ عِزٍّ يَتَبَوَّأُهَا أَكْرَمُ مِنْ هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ؟؛ عَنْ أَنَسٍ t قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ r: «إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ» قَالَ: قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «أَهْلُ الْقُرْآنِ؛ هُمْ أَهْلُ اللهِ وَخَاصَّتُهُ» [أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَغَيْرُهُمَا] فَأَهْلُ الْقُرْآنِ - أَيْ حَفَظَتُهُ الْعَامِلُونَ بِهِ - هُمْ أَهْلُ اللهِ؛ أَيْ أَوْلِيَاؤُهُ الْمُخْتَصُّونَ بِهِ اخْتِصَاصَ أَهْلِ الإِنْسَانِ بِهِ. وَعَنْ عَامِرِ بْنِ وَاثِلَةَ t أَنَّ نَافِعَ بْنَ عَبْدِ الْحَارِثِ لَقِيَ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- بِعُسْفَانَ - وَكَانَ عُمَرُ يَسْتَعْمِلُهُ عَلَى مَكَّةَ - فَقَالَ: مَنِ اسْتَعْمَلْتَ عَلَى أَهْلِ الْوَادِي، فَقَالَ: ابْنَ أَبْزَى، قَالَ: وَمَنِ ابْنُ أَبْزَى؟ قَالَ: مَوْلًى مِنْ مَوَالِينَا، قَالَ: فَاسْتَخْلَفْتَ عَلَيْهِمْ مَوْلًى؟ قَالَ: إِنَّهُ قَارِئٌ لِكِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّهُ عَالِمٌ بِالْفَرَائِضِ، قَالَ عُمَرُ: أَمَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ r قَدْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ» [أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ]. فَطُوبَى لأَِهْلِ الْقُرْآنِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ؛ فَإِنَّ مَنَازِلَهُمْ بِقَدْرِ تَعَلُّقِهِمْ بِهِ فِي الدُّنْيَا قِرَاءَةً وَتَرْتِيلاً، وَإِخْلاَصاً وَعَمَلاً؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: «يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ: اقْرَأْ، وَارْتَقِ، وَرَتِّلْ؛ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا» [أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ].
وَمَا أَعْظَمَ خَسَارَةَ مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِالْقُرْآنِ تَعَلُّماً وَلاَ تَعْلِيماً، وَلاَ فَهْماً وَلاَ حِفْظاً وَلاَ تَعْظِيماً!!، وَمَا أَشَدَّ حَسْرَتَهُ!!؛ قَالَ تَعَالَى: ) وَنُنزلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلا خَسَارًا ( [الإسراء:82].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ، أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْكَرِيمَ، وَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَنَاصِرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي خَلَقَكُمْ، وَاسْتَعِينُوا عَلَى طَاعَتِهِ بِمَا رَزَقَكُمْ؛ يَحَقِّقْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مَا وَعَدَكُمْ.
أُمَّةَ الإِيمَانِ وَالْقُرْآنِ:
ذَاكَ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى الَّذِي جَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَقَدْ أَعَزَّ اللهُ بِهِ هَذِهِ الأُمَّةَ الَّتِي كَانَتْ فِي ذَيْلِ الأُمَمِ، لاَ يُحْسَبُ لَهَا بَيْنَ الْعَالَمِينَ حِسَابٌ، فَتَسَنَّمَتْ بِهِ ذُرَا الْمَجْدِ وَالْعَلْيَاءِ، وَارْتَقَتْ مَدَارِجَ السُّؤْدَدِ وَالْكِبْرِيَاءِ، وَحَمَلَتْ مِشْعَلَ الْحَضَارَةِ وَالنُّورِ لِلْبَشَرِيَّةِ، وَأَقَامَتِ الْعَدْلَ وَالإِنْصَافَ فِي الْبَرِيَّةِ، حَتَّى غَدَتْ مِثَالاً فِي الأُمَمِ يُحْتَذَى، وَمَنَاراً فِي الْوَرَى يُقْتَفَى، وَأَضْحَتْ وَلَهَا شَأْنٌ بَيْنَ الشُّعُوبِ، وَقَدَّمَتْ لِلإِنْسَانِيَّةِ حَضَارَةً عَزَّ مَثِيلُهَا فِي الْخَافِقَيْنِ. ذَلِكَ كُلُّهُ يَوْمَ كَانَتْ تَعْمَلُ بِقُرْآنِهَا، وَتَقْتَدِي بِرَسُولِهَا، وَتَعْتَزُّ بِإِسْلاَمِهَا. وَانْظُرُوا – يَا رَعَاكُمُ اللهُ– مَاذَا حَصَلَ لَهَا حِينَ أَهْمَلَتْ دُسْتُورَهَا الْخَالِدَ، وَتَنَازَلَتْ عَنْ قِيَمِهَا السَّامِيَةِ، وَمُثُلِهَا الْعُلْيَا، وَتَارِيخِهَا الْمَجِيدِ، وَاتَّبَعَتْ كُلَّ نَاعِقٍ يَدْعُو إِلَى الاِنْحِلاَلِ بِاسْمِ الْحُرِّيَّةِ، وَإِلَى التَّخَلِّي عَنِ الْقِيَمِ بِدَعْوَى الدِّيمُقْرَاطِيَّةِ، وَإِلَى تَضْيِيعِ الدِّينِ وَتَمْيِيعِ الأَخْلاَقِ بِاسْمِ الْحَدَاثَةِ وَاللِّيبْرَالِيَّةِ؟! مَاذَا حَصَدْنَا مِنْ تَخَلِّينَا عَنْ إِسْلاَمِنَا، وَاتِّبَاعِنَا لِكُلِّ مُصَفِّقٍ: إِلاَّ الظُّلْمَ وَالاِسْتِعْبَادَ، وَالتَّخَلُّفَ وَالاِسْتِبْدَادَ، وَالْهَزَائِمَ الْمُتَلاَحِقَةَ، وَالنَّكَسَاتِ الْمَاحِقَةَ؟! كَيْفَ لاَ؟ وَقَدْ أَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهْمَا ابْتَغَيْنَا الْعِزَّةَ بِغَيْرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ.
لَقَدْ نَسِينَا اللهَ فَنَسِيَنَا، وَهَجَرْنَا كِتَابَهُ فَتَخَلَّى عَنَّا، وَصَدَقَ رَسُولُ اللهِ r إِذْ قَالَ: «إِنَّ اللهَ يَرْفَعُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَقْوَامًا، وَيَضَعُ بِهِ آخَرِينَ».
وَلْنَعْلَمْ -أَيُّهَا الْكِرَامُ- أَنَّ هَجْرَ الْقُرْآنِ مُصِيبَةٌ كُبْرَى، وَطَامَّةٌ عُظْمَى، وَلَيْسَ هَجْرُهُ بِتَرْكِ قِرَاءَتِهِ وَطِبَاعَتِهِ فَحَسْبُ، بَلْ هَجْرُهُ أَنْوَاعٌ:
أَحَدُهَا: هَجْرُ سَمَاعِهِ وَالإِيمَانِ بِهِ وَالإِصْغَاءِ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: هَجْرُ الْعَمَلِ بِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، وَإِنْ قَرَأَهُ وآمَنَ بِهِ. وَالثَّالِثُ: هَجْرُ تَحْكِيمِهِ وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ. وَالرَّابِعُ: هَجْرُ تَدَبُّرِهِ وَتَفَهُّمِهِ وَمَعْرِفَةِ مَا أَرَادَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ مِنْهُ. وَالْخَامِسُ: هَجْرُ الاِسْتِشْفَاءِ وَالتَّدَاوِي بِهِ فِي جَمِيعِ أَمْرَاضِ الْقَلْبِ وَأَدْوَائِهِ، فَيَطْلُبُ شِفَاءَ دَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيَهْجُرُ التَّدَاوِيَ بِهِ، وَكُلُّ هَذَا دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً ( [الفرقان:30]، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْهَجْرِ أَهْوَنَ مِنْ بَعْضٍ؛ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى.
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
وَمَعَ مَا فِيهِ الْمُسْلِمُونَ الْيَوْمَ مِنْ تَقْصِيرٍ تُجَاهَ دِينِهِمْ، وَتَضْيِيعٍ لِقُرْآنِهِمْ وَدُسْتُورِهِمْ؛ فَإِنَّ بَوَارِقَ الأَمَلِ لاَ تَخْفِتُ، وَنِيَاطُ الرَّجَاءِ لاَ تَنْقَطِعُ؛ إِذْ تَبْذُلُ دُوَلٌ إِسْلاَمِيَّةٌ عَدِيدَةٌ جُهُوداً يُشْكَرُونَ عَلَيْهَا لِخِدْمَةِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِهِ الَّذِينَ حَمَلُوهُ فِي صُدُورِهِمْ، وَجَعَلُوهُ تَاجاً وَفَخَاراً عَلَى رُؤُوسِهِمْ، وَمِشْعَلاً وَنُوراً فِي دُرُوبِهِمْ.
وَفِي هَذَا الْمَجَالِ تُقِيمُ دَوْلَةُ الْكُوَيْتِ مُسَابَقَةَ جَائِزَةِ الْكُوَيْتِ الدَّوْلِيَّةَ لِحِفْظِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَقِرَاءَتِهِ وَتَجْوِيدِ تِلاَوَتِهِ؛ وَهِيَ مُسَابَقَةٌ سَنَوِيَّةٌ تُنَظِّمُهَا وَزَارَةُ الأَوْقَافِ وَالشُّؤُونِ الإِسْلاَمِيَّةِ؛ إِسْهَاماً مِنْهَا فِي خِدْمَةِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وَتَحْقِيقاً لِدَوْرِهَا فِي رِعَايَةِ حَفَظَتِهِ وَالْقَائِمِينَ عَلَيْهِ أَفْرَاداً وَمُؤَسَّسَاتٍ عَلَى مُسْتَوَى الْعَالَمِ، وَإِبْرَازاً لِلإِنْجَازِ الْحَضَارِيِّ الإِسْلاَمِيِّ الَّذِي شَعَّ نُورُهُ مِنَ الْقُرْآنِ، وَاسْتَقَى مَعَالِمَهُ مِنْ وَحْيِ أَحْكَامِهِ وَأَخْلاَقِهِ الشَّامِخَةِ، وَقِيَمِهِ وَمُثُلِهِ الرَّاسِخَةِ. فَجَزَى اللهُ خَيْرَ الْجَزَاءِ كُلَّ مَنْ قَامَ بِخِدْمَةِ كِتَابِ اللهِ، وَإِكْرَامِ أَهْلِهِ الْعَامِلِينَ بِهِ حِفْظاً لأَِلْفَاظِهِ وَحُدُودِهِ، وَعَمَلاً بِأَحْكَامِهِ وَمَدْلُولاَتِهِ، وَإِتْقَاناً لِتِلاَوَتِهِ وَتَدَبُّراً لِمَعَانِي آيَاتِهِ، وَجَعَلَهُ اللهُ شَافِعاً لَهُمْ وَمُشَفَّعاً فِيهِمْ؛ يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ، عَنْ جَابِرٍt عَنِ النَّبِيِّ r قَالَ: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ [أَيْ: مُجَادِلٌ مُدَافِعٌ ]، مَنْ جَعَلَهُ إِمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ» [أَخْرَجَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَالطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ t].
اللَّهُمَّ اجْعَلِ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَجِلاَءَ أَحْزَانِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يُحِلُّونَ حَلاَلَهُ، وَيُحَرِّمُونَ حَرَامَهُ، وَاجْعَلْهُ حُجَّةً لَنَا، وَلاَ تَجْعَلْهُ حُجَّةً عَلَيْنَا. اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا, وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا, وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا, وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَاجْعَلِ الْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ. اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالْمُشْرِكِينَ. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجِيبُ الدَّعَوَاتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ وُلاَةَ أُمُورِنَا لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ لِلْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً مُطْمَئِنَّا سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلاَدِ الْمُسْلِمِينَ.