أنت ومالك لأبيك.. نداء نبوي لكل ابن..
يربي الإسلام أفراده تربية علي أساس الفضيلة والخلق القويم , ويهتم كذلك بتنشئة الجيل الإسلامي بتنشئة عالية تبعد عن روح الانحلال والميوعة وندفع به إلي معالي الأمور.
لذلك نجد في هذه الآية سحر الغاية , ونبل الدعوة , وقدسية الهدف الذي يسعى إليه الإسلام من أجل أن يبقى أفراده مجتمعين متماسكين متعاونين , تحكمهم المحبة , وتربطهم الأخوة ويجمعهم الإسلام في إطاره الإنساني الرحيم بإطار المحبة والمودة والإخاء.
وأول هذه الأمور بعد الإيمان بالله وتوحيده وعدم الإشراك به هو بر الوالدين.
"وبالوالدين إحسانا ً"
حيث أنهما أولي الناس بالرعاية , وأحقهم بالعناية فهما سبب إيجادك وإيفادك إلي هذه الحياة بعد الله سبحانه.. ولولا هما لكنت نسياً منسياً.
فأمك تلك التي حنت عليك فغذتك بلبنها , وغمرتك بحنانها , وأثرتك علي نفسها وراحتها. فكم شقيت من أجل راحتك؟.. وكم تعبت من أجل سعادتك؟.. وكم تعبت من أجل الأثقال والآلام في سبيل أن تراك زهرة يانعة تعيشن بين أزهار الربيع؟.
وكم أخي الحبيب من ليلة سهرت من أجل راحتك لتطرد عنك شبح الخوف وتزيل عنك ألم المرض؟!.
وكم من ساعات قضتها بين جدران البيت تحملك علي يديها متعبة مثقلة لتواسيك وقت شدتك ومحنتك؟!.
وأبوك ذلك الذي لم يهدأ له بال , ولم تنم له عين من أجلك.. كل ذلك علي حساب صحته حتى يراك في أعلي الدرجات والمقامات.. كم ضحى من أجلك؟!.. وكم تغرب وسافر من أجل أن يراك سعيدا ً هانئا ً مطمئنا ً؟!.. فكم كانا محسنين معك؟!.
وبالفعل صرت كما تمنيا والداك.. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
"وبالوالدين إحسانا"
أسلوب بلاغي رائع.. قمة البلاغة وقمة الروعة .
فقد كان من الممكن أن يقال هنا "ولا تسبوا الوالدين" مثلا ً.. ولكن السياق لا يحوي هذا.. لماذا؟.. لأن الإساءة غير واردة البتة, ولا متصورة بالمرة.
وكذلك الأمر بالإحسان لم يرد هنا.. لماذا؟.. لأن هذا الإحسان مقرر في النظرة السوية التي تبذله تلقائياً, ومن ثم فلا حاجة إلي الأمر به ثقة بطبيعة الفطرة.
فالإحسان إلي الوالدين مقررا ً ابتداءً.. لكن المطلوب هو قمته.. هو ذروته.. فلا ندخر وسعا ً في الإحسان إلي الوالدين .
والإحسان هو أعلي مرتبة من العدل.. فأحسن أخي الحبيب إلي والديك كما أحسنا إليك من قبل.. ولا تكن من العاقين.
وقبل أن نحلق حول بر الأبناء بآبائهم وأمهاتهم نذكر طرفا من بر الآباء والأجداد بأبنائهم وأحفادهم.
فإذا كان في الناس من نسميهم "اجتماعيين" قادرين علي أن يشتروا العبيد بأموالهم.. فهناك طراز فريد قادر علي أن يشتري الأحرار بحسن معاملتهم.. وفي طليعة هؤلاء آباء وأمهات صدق غرسوا فسيلة البر في قلوب أولادهم.. فصارت بعد ذلك شجرة ضخمة أكلها دائم وظلها في السماء.. تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.
بر الأجداد بأحفادهم:-
وأسوتنا في ذلك رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وينقل لنا وصف هذا البر سيدنا أبو قتادة (رضي الله عنه).. فيقول: "خرج علينا رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وأمامة بنت أبي العاصي علي عاتقه فصلى بنا.. فإذا ركع وضعها.. وإذا رفع رفعها".
موقف من الصعوبة بمكان علي النفس البشرية وأيضاًَ كان صعباً علي رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يحتار فيه الإنسان بين عقله وقلبه.. عقله الذي يفرض عليه أن يقبل علي صلاته بكل كيانه.. وقلبه الموصول بصغيرته التي هي جزء منه.. وكان من توفيق الله لرسوله أن وفق رسول الله بين الأمرين.
أولا ً: أن يحافظ علي المبالغة في الخشوع.
ثانياً: أن يراعي خاطر حفيدته المتعلقة به.
فقدم الثاني علي نحو.. لم يبطل الأول .
وكان (صلي الله عليه وسلم) باراً بابنه إبراهيم فعن أنس (رضي الله عنه) قال: "أخذ النبي (صلي الله عليه وسلم )إبراهيم فقبله وشمه".. وكان يفعل ذلك مع فاطمة - رضي الله عنها –.
وكان أبو بكر - رضي الله عنه - يقبل عائشة فكانت الرحمة بالصغار صورة من صور البر بهم.. وهو طريق لا حب لا يضل سلكه ولا يهتدي تاركه.
ولكن.. وللأسف الشديد هناك أناس جهلوا هذا الطريق فكان للنبي (صلى الله عليه وسلم) معهم وقفة لفت فيها أنظارهم إلى أهمية بر الآباء أبناءهم.
فعن عائشة – رضي الله عنها – قالت: جاء أعرابي إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: بعد أن رأى النبي (صلى الله عليه وسلم) يقبل الحسن والحسين.. أتقبلون صبيانكم؟!.. فما نقبلهم!! فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أو أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة".
لقد كان الدرس قاسيا ً.. ولكنه عين الحكمة حيث أنه كان مع رجل مردت قبيلته على القسوة في معاملة أبنائها.. وحرمانهم من حقهم المشروع في الحنان.. والذي لا يصير سويا ً إلا به.
بر الأبناء بآبائهم وأمهاتهم:-
إن من الطبيعي أن يرد الأبناء ذلك الجميل إلى آبائهم وأمهاتهم برا ً ووفاءً.. "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان".. ونذكر هنا طرفا ً من رد الجميل لنرى ما كان عليه سلفنا.. وإلى ما وصل إليه أبناؤنا اليوم في برهم بآبائهم وأمهاتهم.. شتان ثم شتان.
قال المأمون: لم أجد أحدا ً برا ً بأبيه من الفضل بن يحيى.. فكان أبوه لا يتوضأ إلا بماء ساخن فمنعه السجان من الوقود في ليلة باردة.. فلما أخذ يحيى مضجعه من النوم قام ابنه الفضل إلى إناء من نحاس مملوء بماء فأدناه من المصباح.. حتى استيقظ والده فتوضأ بالماء الساخن.
قارن أخي الحبيب بين ما فعله الفضل بن يحيى مع والده.. وكلاهما كان وزيرا ً.. وبين ما يفعله كثير من أبناء مصر وخاصة الطبقة الراقية مع آبائهم وأمهاتهم.. وما دور المسنين منا ببعيد.. والله لو نظرت إليهم أو سمعت منهم شكواهم لتقطعت كبدك ألما ً وحزنا ً وشفقة عليهم.. فأين قلوب أبناءهم؟.. هل ماتت؟!!.. أم ماذا حدث لها؟.
والمرأة على نفس الطريق برا ً ووفاءً:-
قال يحيى بن كثير: لما قدم أبو موسى الأشعري وأبو عامر على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فبايعوه وأسلموا.
قال: "ما فعلت امرأة منكم تدعى كذا وكذا؟".. قالوا: تركناها في أهلها.. قال: "فإنه قد غفر لها".. قالوا: بم يا رسول الله؟!.. قال: "ببرها والدتها".
قال: "كانت لها أم عجوز كبيرة.. فجاءهم النذير أن العدو يريد أن يغير عليكم فجعلت تحملها على ظهرها فإذا أعيت وضعتها.. ثم ألزقت بطنها ببعض أمها وجعلت رجليها تحت رجلي أمها من الرمضاء حتى نجت".
أين أنتم يا من ألقيتم بأمهاتكم في دور المسنين؟
من بر الأمهات:-
عن أبي يزيد البسطامي قال: طلبت أمي ماءً فجئتها به.. فوجدتها قد نامت فقمت أنتظر يقظتها.. فلما استيقظت.. قالت: أين الماء؟.. فأعطيتها الإناء.. انسلخ أصبعي فسال الدم.. فقالت: ما هذا ؟
فأخبرتها فقالت: اللهم أني راضية عنه فأرض عنه.
وما أصحاب الصخرة منا ببعيد هؤلاء الثلاثة الذي أواهم المبيت إلى غار فانحدرت صخرة فسدت الغار فلا يستطيعون خروجا ..ً فقام كل واحد منهم يقدم قربانا ً بين يدي الله.. ويقدم عملا ً أخلص فيه لله.
فجاء الأول ببر والده وقدمه قربانا ًَ لله فكان سببا ً في خروجهم من غايابات ذلك الغار وخرجوا يمشون .
ولقد ارتقي أويس القرني قمة سامقة عند الله وعند رسوله فلما سألوا رسول الله عن تلك المنزلة العالية التي نالها أويس قال: أن من صفاته أنه كان بارا ً بوالدته.
أحبتي في الله.. البر.. البر تبلغوا:-
البر بالوالدين لابد من التركيز عليه حتى يظل الود قائما ً تتواصل به الأجيال .
إن الوالدين هما: جنتك ونارك فاختار لنفسك ما يحلو.
وإذا كانت النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها.. فإن نصيب الوالدين من الحب أوفى.. فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
وفي الختام:-
أحذر نفسي وإياكم من العقوق فهو من أكبر من الكبائر عند الله سبحانه.. فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه".. قيل يا رسول الله كيف يلعن الرجل والديه؟ قال: "يسب الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه".. فالحذر.. فالحذر.
وإليكم أيها الأحبة هذه القصة التي رواها ابن ماجة والتي توضح بقاء حق الوالدين محفوظ.. كان رجل قد جاء أبوه إلى النبي (صلى الله عليه وسلم) وقال له أنه أخذ مالي.. فاستدعاه النبي (صلى الله عليه وسلم) فإذا هو شيخ كبير يتوكأ على عصاة.. يخاطب نفسه بكلام غير مسموع .
فنزل جبريل على النبي (صلى الله عليه وسلم) يأمره أن يسأل الرجل عما حدثته به نفسه قبل أن ينظر في شكوى ابنه فلما سأله.. قال الرجل: والله لا يزيدنا الله بك إلا إيمانا ً وتصديقا ً لقد قلت أناجي ابني:
غذوتك مولوداً وعلتك يا فعا ً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا ً أتململ
كأني أنا المطروح دونك بالذي طرقت به دوني.. فعيني تهمل
تخاف الردي نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كانت فيك أؤمل
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذا لم ترع أبوتي فقلت كما الجار المجاور يفعل
فأوليتني حق الجوار ولم تكن عليّ بمال دون موتك تبخل
فلما سمع النبي (صلي الله عليه وسلم) قوله.. أغرورقت عيناه بالدموع .. وقال الرجل مستطردا ً!.
إن ابني كان ضعيفا ً وأنا قوي.. وكان فقيرا ً وأنا غني.. فكنت لا أمنعه شيئا ً من مالي.. واليوم أصبحت ضعيفا ً وهو قوي .. وفقيراً وهو غني ..ويبخل عليّ بماله .
فبكى النبي وقال :
"ما من حجر ولا مدر يسمع هذا إلا بكى".. والتفت إلي الوالد وقال: "أنت ومالك لأبيك "
فيا من طرحتم آباءكم وأمهاتكم في دور المسنين أقول لكم:
أنتم وأموالكم لإبائكم وأمهاتكم